كَثُر الحديث في الآونة الأخيرة، عن الغلو والإرهاب، وعن انتشار الفكر المتطرف والسلوك المواكب له بين صفوف الشباب خصوصاً، خاصةً وأنه يأخذ أحياناً وللأسف الطابع الديني، وينعكس نقمة على المجتمع ومظاهر الحداثة فيه وما ينتج عن ذلك من ممارسات أصبحت تقوّض دعائم الاستقرار في العالم عموماً، وفي المنطقتين العربية والإسلامية.
ولكي ندرك أسباب انتشار هذه الظاهرة، علينا أن نبحث في العوامل المؤثرة في بناء شخصية الإنسان في فكره وسلوكه. وبنتيجة البحث، وجدنا أنها تنقسم إلى عدة محاور، تتفاعل فيما بينها، لتكوّن هذا الفكر وهذا السلوك.
1. عامل الوراثة. يلعب هذا العامل دوراً مهماً على الأخص في شكل وقسمات المولود لجهة الوجه والطول والعينين وبعض المواصفات الأخرى في الجسم. كما أنه يلعب دوراً في سلوكه وذكائه. ويقرّ الإسلام ذلك من خلال دعاء نبيّ الله نوح عليه السلام، حيث يدعو ربه قائلاً: “… رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. إنك إن تذرهم يُضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا” (نوح26 – 27) ويقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ناصحاً القادمين على الزواج: “تزوجوا في الحِجر الصالح، فإن العرق دسّاس”. ويؤكد العالم الرياضي البريطاني فرانسيس غالتون على الدور الكبير للوراثة في الذكاء، إذ رأى أنه يوجد بين أقارب الشخصيات المتفوقة عقلياً، التي درسها، عدد من الأشخاص المتفوقين عقلياً، أكبر بكثير مما يمكن أن يعزى إلى المصادفة وحدها، ويعزو ذلك إلى الخلايا الجينية التي يولدون وهم مزودون بها. لا شك في أن دورهذا العامل يبقى خارج إمكانية التدخل فيه أو التأثير عليه إلى الآن.
2. عامل الأسرة: تلعب الأسرة دوراً مهماً جداً في تنمية قدرات الطفل، لأن الولد فيها يبدأ بالتفاعل الاجتماعي، وفيها يتعلم ممارسة الاستقلال الشخصي. ولقد حذّر العلماء من بعض أنماط التربية الأسرية التي تعوق الإبداع، ومنها النمط الديكتاتوري المتسلط، الذي يتصف بالقسوة والتسلط، وفرض الطاعة العمياء، مع عدم الاستماع إلى الأبناء، وعدم احترام آرائهم. ومن أهم نتائج هذا النمط، أن ينشأ الأبناء ضعفاء في مواجهة المتغيرات، وتقلّ قدراتهم الإبداعية، خصوصاً وأنّ الإبداع غالباً ما يتجلّى عند الطفل في سنين عمره الأولى حتى التاسعة عموماً، وبالمقابل، فإنّ النمط الذي يتصف بالتسامح الشديد، الذي يصل إلى حد التدليل، غالباً ما ينتج عنه أبناء يتّسمون بالفشل والانحراف. كما أنّ التفرقة في معاملة الأبناء، كالاهتمام المفرط بالطفل البكر مثلاً، غالباً ما يبعث عند الآخرين القلق والتردد في اتخاذ القرارات. وينبغي التأكيد في هذا المجال على دور الأم، تحديداً، في التربية الأسرية. يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
فإعداد الأم لتربية أولادها تربية صالحة قويمة، تتماشى مع الحداثة وتتمسك بالأصالة هو الطريق إلى إعداد الأمّة والمجتمع والقادة، ليلعبوا دورهم في مسيرة تقدّم الحضارة الإنسانية والمجتمعات البشرية. ولكن وللأسف الشديد، فإنّ دور الأم يتراجع كثيراً في العصر الحديث، مع نزول المرأة إلى ميدان العمل، لتشارك الرجل في كسب قوت معيشة العائلة، فيضيق بذلك الوقت الذي تقضيه الأم مع أطفالها، وينعكس ذلك سلباً على تربية الأولاد.
3. المؤسسات التربوية والتعليمية. (المدرسة والجامعة) هذه المؤسسات هي الأكثر فعالية وتأثيراً في تكوين العقل البشري، لأنها تستمر لفترة طويلة من الزمن، منذ دخول الطفل إلى دور الحضانة، وتبقى معه لحين تخرجه من الجامعة إلى سوق العمل، وتنتقل به من مرحلة إلى مرحلة، ينمو فيها العقل، وتكتسب فيها العلوم والمعارف، وتنشأ فيها الصحبة والزمالة، وتبرز فيها المواهب، وتتفجر الطاقات، كما يجب أن تكون فيها التربية والتوجيه، وكل ذلك يستمر ضمن برامج ومناهج متواصلة ومتدرجة، أعدّها خبراء متخصصون في عالمي التربية والتعليم، وفق طرائق تربوية وتعليمية تحظى بالتطوير المستمر.
ومن هذا المنطلق، كان الاهتمام الأكبر في العالم المتحضر، بالمؤسسات التربوية والتعليمية، اهتماماً يفوق الاهتمام بالمؤسسات الأخرى. ومن هذا المنطلق أيضاً، وجب أن تتماشى فلسفة التربية والتعليم في هذه المؤسسات، مع عقيدة المجتمع ومبادئه الوطنية، وأهدافه وقيمه، حتى يتحقق التكامل، في شخصية الأجيال الذين يقع على عاتقهم بناء المستقبل.
وأضرب مثالاً على ذلك ما جرى في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فقد أدخلت إلى برامجها التعليمية، مادة إلزامية، في جميع مراحل التعليم وهي Moral Education أي “التربية على القيم” وهي مبنية على ثلاثة محاور هي: “القيم الإنسانية – الإخلاص للوطن – وحب الأمبراطور” هذه الأقانيم الثلاثة كانت كافية لتنهض باليابان من دمار الحرب إلى مصاف الدول المتقدمة بسرعة قياسية.
ولعل في مسيرة التعليم عند العرب التي بدأت مع ظهور الإسلام الحنيف، وإستمرت خمسة قرون ونيف، خير مثال على دور التربية والتعليم في صقل مهارات الإنسان وإحراز التقدم الكبير في مسيرة الحضارة الإنسانية عموماً. وهي الفترة التي كرّست العرب والمسلمين سادة العالم وبناة الحضارة فيه. فأصبح علماؤهم منارات مضيئة في تاريخ العلوم، وأصبحت مؤلفاتهم مراجع أساسية لا بدّ لكل طالب علم أن ينهل منها، وشهد لهم العالم كلّه، بأنهم المؤسسون الحقيقيون لعلوم الطبيعة، وكانوا أساساً للنهضة الأوروبية في غير ميدان. (يراجع كتابنا: مسيرة التعلم عند العرب)
وللأسف الشديد، فإن الدور التربوي في المدرسة والجامعة يتراجع في معظم هذه المؤسسات ليس على صعيد الوطن أو المنطقة فحسب، بل على صعيد العالم عموماً، لتصبح هذه المؤسسات تعليمية فقط، تحرص على أفضل نسب نجاح لطلابها في الامتحانات والشهادات. وأصبحت التربية لا تحظى سوى بالجزء اليسير من الوقت المتبقي خارج العملية التعليمية البحتة.
4. البيئة المحيطة: وهي البيئة الحاضنة للفرد، وهي تشمل الأحزاب السياسية، والجمعيات الثقافية الاجتماعية، والأندية الرياضية والكشفية، والوسط الديني (المسجد أو الكنيسة)، والالتزام العقائدي وممارسة الطقوس الدينية والعبادات ومدى تعويد الأولاد على ذلك. كما تشمل البيئة الجغرافية، القروية أو المُدنية، والوضع المادي عند الأهل، وتشمل أيضاً المستوى السلوكي والنفسي عند الأصدقاء. وقد ورد في الحديث الشريف حول تأثير الصحبة والأصدقاء قوله صلى الله عليه وسلم: “إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكيرإما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة” (رواه أبو موسى الأشعري. صحيح البخاري – 5534) كما يقول عليه الصلاة والسلام: “الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل” (رواه أبو هريرة – سنن أبي داود – 4833) ويقول المثل الشائع: “قل لي من تعاشر أقل لك من أنت”.
لا شك أن هذا العامل يبقى خارج التأثير المباشر، خصوصاً إذا ترك الأهل الحبل على الغارب في متابعة أبنائهم، كيف يقضون أوقات فراغهم ومع من. فالمجتمع يغصّ بكثرة المؤسسات التي تختلف فيما بينها، في العقيدة، والرؤية والرسالة والأهداف، والتي تتنافس فيما بينها في استقطاب المؤيدين والمحازبين والمنتسبين، ضاربة على أوتار الغريزة تارة، أو الانتماء الطائفي تارة أخرى، أو غير ذلك. وتسعى بكل ما أوتيت من جهد ودعاية وتسويق، لنشر أهدافها.
5. عامل الإعلام، وأهمه القنوات الفضائية المتنوعة، التي اقتحمت البيوت بدون إستئذان، وفي كل الأوقات، والتي تعتمد في بثها التلفزيوني على سياسة الغزو التجاري، وتهدف إلى تحقيق الأرباح المادية وأحياناً إلى نشر فكرٍ معين، بعيداً عن مسؤولية الرقابة الذاتية والعقلانية، وعلى بث المعلومات والمعارف، والبرامج المتنوعة التي تبثها، ونوعيتها ومحتواها وفحواها وأهدافها. وهي بمجملها تؤثر بشكل مباشر على المشاهد، وتتحكم في توجهاته بما لها من تأثير ثقافي وفكري وإجتماعي وسياسي وديني وغيره. وقد أصبحت هذه القنوات الفضائية، شريكاً مساهماً في تربية الناشئة. فهي تخاطب الصغير والكبير من خلال برامجها المتنوعة جداً، والتي يتم إخراجها وفق نماذج حديثة ومتقدمة في العرض والمخاطبة، فإستطاعت أن تستأثر بالعديد من العقول والعواطف، خصوصاً عند الناشئة فإستسلمت لها بلا مقاومة تذكر، وأصبحت لها الموجّه والمرشد. بل وأصبحت تتحكم في برنامج الأسرة، وتقرّر لها وللأطفال مواعيد المذاكرة والنوم والطعام والشراب وفقاً للبرامج التي يتابعونها.
يذكر الرئيس علي عزت بيجوفيتش، الرئيس السابق للبوسنة، في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”، أن “التلفزيون له دوره المحزن. وقد أذيعت نتيجة لدراسة إستمرت ست سنوات، كان موضوعها العنف في برامج التلفزيون، وعما إذا كانت هذه البرامج تسبب العنف في الحياة (وقد إنتهت الدراسة سنة 1977). ويقول فيها وليان بلسون: إن الإجابة للأسف بالإيجاب. وقد أجرى أحدهم حسبة فوجد أن الطفل الأميركي العادي يشاهد 18 ألف جريمة قتل على التلفزيون قبل أن ينتهي من مدرسته الثانوية”. ويضيف بيجوفيتش قائلاً “أنشأ الرئيس الأميركي لجنة للصحة العقلية استمر عملها عشر سنوات ونشرت تقريرها في عام 1977، وقد اكتشفت اللجنة أن مشكلات من هذا النوع أسوأ مما كان متوقعاً، وأن ثلث السكان على الأقل كانوا يعانون من آثار اضطرابات عاطفية خطيرة. وفي دراسة للمعهد القومي للصحة العقلية في السنة نفسها، تبين أن أكثر من 1,3 مليون أمريكي عولجوا من اضطرابات عقلية مختلفة. ووجد أن ثمانية ملايين طفل أمريكي من 54 مليوناً كانوا يحتاجون لمساعدات بسبب صعوبات نفسية، وأن عشرة ملايين على الأقل من الناس عانوا من مشكلات بسبب استهلاك الخمور، بينما زاد عدد مدمني الهرويين أكثر من نصف مليون”.
ويبقى هذا العامل المؤثر بشكل كبير في تكوين فكر وسلوك الإنسان، خارج السيطرة أو التأثير المباشر عليه إذا لم يتدخل الأهل في مراقبة البرامج التي يشاهدها الأطفال منذ نعومة أظافرهم.
6. وسائل التواصل الإجتماعي والألعاب الإلكترونية. لا شك في أن وسائل التواصل الإجتماعي هي وسيلة من وسائل الاتصال والإعلام على شبكة الإنترنت، وقد إنتشرت انتشاراً سريعاً وواسعاً جداً حتى أصبح المشاركون فيها بالمليارات، من جميع الأعمار، وخصوصاً الشباب. وهي منبر مفتوح للجميع، وعلى كافة المستويات والمجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفنية والدينية والرياضية وغيرها، وهي من أنجح وأهم وسائل الاستقطاب، وخطورتها أنها أداة فعالة جداً بيد من يستخدمها . فهي نعمة وخير وفضيلة لمن يستعملها بأهداف سوية سليمة وبشكل صحيح يراعي مواطن الحق والخير. وهي نقمة وشر كبير لمن يسيء استخدامها، ويستعملها في غير وجه الحق والخير. ذلك أن هذه الوسائل ليست سوى أدوات متطورة، تقود إلى الخير، كما تقود إلى الشر. وهي تساعد في نشر الثقافة والفكر والأخلاق والمبادئ السامية، والقيم والعلوم الإنسانية وغيرها، وبالتالي تساهم في دورها هذا في بناء الحضارة الإنسانية في مسار سليم واسع الإنتشار وعلى طريق الخير. كما يمكن من خلالها نشر الرذيلة والعنصرية الذميمة، والعلوم والمعارف المدمرة والإحتكار الإقتصادي المحجف، والفكر المتطرف والعنف والإرهاب وما يؤدي إلى هدم وتقويض الحضارة الإنسانية عموماً، على طريق الشر. وكل ذلك يتم بسرعة قياسية وانتشار على أوسع نطاق. وقد أثبتت بعض الدراسات، أن نسبة استعمال شبكة الإنترنت في العالم في أمور مضرة وغير مفيدة، قد بلغت الـ70 % أو يزيد. ولا شك بأن مواقع العنف والإباحية ومنتديات اللهو المفرط، والسباب والشتائم والمكائد وغيرها قد أخذت حيزاً كبيراً على هذه الشبكة.
وقد نبّه الباحثون لخطورة إدمان الشباب وخاصة الأطفال على متابعة التكنولوجيا الحديثة على اختلافها،
من كومبيوتر وآيباد، وهواتف ذكية، مربوطة بشبكة الإنترنت، لما تسببه من إنعزالية وإنطواء عن المجتمع القريب، وخلق هوة كبيرة بينه وبين محيطهم الإجتماعي، حيث يتكون لهم أصدقاء إفتراضيين، قد يكونوا مختلفين عن واقعهم الحقيقي. ومما يزيد في خطورة هذا التواصل أنه يتمتع بخصوصية بالغة، بعيدة كل البعد عن أية رقابة من الأهل أو من المربين.
أما الألعاب الإلكترونية فهي تهدد الأطفال والمراهقين – كلما زادت كمية الوقت الذي يقضونه أمامها – بالعزلة عن الناس، وبالمعاناة من القلق والاكتئاب والمخاوف الاجتماعية. وقد أجريت دراسات علمية وإحصائية حول إدمان ألعاب الفيديو، فثَبُتَ أنها تحولت إلى مشكلة سلوكية خطيرة وكبيرة، وأنها أصبحت تشكل مرضاً في حد ذاتها، وخصوصاً ألعاب العنف للأطفال. أما بقية الألعاب، فهي نوع من ثقافة أو سمات العصر الحديث، التي لا يمكن حرمان الأطفال من ممارستها، مع الاعتدال وتحديد الوقت الذي يقضيه الطفل في ممارستها، بالتوازي مع بقية الأنشطة الأخرى، رياضية كانت أم إجتماعية. وقد حثّت المفوضية الأوروبية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، على مناقشة التوصل إلى ميثاق طوعي للسلوك الخاص بألعاب الفيديو العنيفة، وذلك بغرض حماية الأطفال. وقد ذكرت صحيفة “تايبيه تايمز” التايوانية في عددها الصادر 18 كانون الثاني لهذا العام، أن شاباً تايوانياً، يبلغ من العمر 32 عاماً فارق الحياة، بعد أن أمضى ثلاثة أيام متواصلة، وهو يلعب في مقهى للإنترنت في جنوب جزيرة “كاوهسيونغ”. وحسب رواية أحد العاملين في المقهى، فإن الشاب المتوفى كان مدمناً على ألعاب الفيديو لدرجة أنه كان يلعب لأيام متتالية. حيث أنه كان في كثير من الأحيان يضطر للنوم في كرسيه، أو يلقي رأسه على الطاولة عندما كان يشعر بالتعب، الشيء الذي جعل زبائن المقهى يظنون للوهلة الأولى أنه نائم، قبل أن يلاحظ أحد العاملين بالمقهى، أنه لم يعد يتنفس، فتم نقله على وجه السرعة إلى المستشفى حيث أعلنت وفاته. وأكد التقرير الطبي أنه توفي إثر سكتة قلبية ناجمة عن جلوسه المطوّل أمام الكومبيوتر.
خلاصة. مع هذا العرض السريع للعوامل المؤثرة في بناء شخصية الفرد، أخلص إلى القول إلى أنها مجتمعة تشترك في تكوين العقل البشري والسلوك الإنساني الذي يتمتع به الإنسان ويمارس نشاطه العلمي والعملي والاجتماعي في المجتمع. وهذه المؤثرات، لا تعمل في عزلة عن بعضها البعض، وإنما هي في حالة تفاعل مستمر ومتواصل. فمثلاً حين يقال أن خاصية ما، أو سمة موروثة مثل الذكاء، فإن ذلك لا يعني أبداً أنها ليست خاضعة للتعديل أو التغيير تحت تأثير العوامل الأخرى مثل الأسرة أو المدرسة أو الجامعة أو البيئة الحاضنة أو غير ذلك. فالجينات المختلفة تتباين فيما بينها إلى حدٍ كبير في إستجابتها للظروف البيئية المحيطة بها.
لذلك، لا بد من التربية على ثقافة الوسطية والاعتدال، وعلى ثقافة نشر السلام والإنفتاح على الآخر، في مواجهة الفكر المتطرف، والإرهاب المستشري. وهذا يتطلب إعداداًسليماً ومتواصلاً للناشئة، الذين هم بناة المستقبل، قطباه الأساسيان: الأسرة والمؤسسات التربوية. أما باقي العوامل، فهي في معظمها قد تفسد أكثر مما تصلح، وهي تبقى خارج إمكانية التأثير المباشر، نظراً لتنوعها، وتعددها وخصوصيتها والتي لا تخضع لرقابة معينة.
· التربية الأسرية، وتحديداً إعداد الأم إعداداً تربوياً حديثاً يتماشى مع متطلبات العصر ولمواجهة تحدياته الكثيرة وعلى مختلف الجبهات. كما أنه من الضروري أن يشكل الوالدان قدوة حسنة لأبنائهما في القول والعمل، وأن يعوّدوا أبناءهما على اجتناب المحرمات والموبقات، وعلى الحوار بالحسنى والمناقشة المبنية على الثقة والمحبة، والبرهان والحجة، وكذلك اعتماد التوازن في كل الأمور بما فيها التوازن في الإنفاق، والتوازن بين مصادر المعرفة الثلاث: الوحي والعقل والحس، والابتعاد عن الغلو والمبالغة في جميع الأمور، والاعتدال في السلوك والتمسك بالعدالة وأولها المساواة بين الأولاد. أضرب على ذلك مثالاً ما يجري في ماليزيا، حيث تقيم الدولة دورات تأهيلية إلزامية للقادمين على الزواج تستمر لمدة ثلاثة أشهر، ويتلقى فيها الزوجان أصول ومبادئ الحياة الزوجية التي هم قادمون عليها بما فيها أصول تربية الأولاد. ويعطى الإذن بالزواج فقط لمن ينجح في هذه الدورات.
· المؤسسات التربوية والتعليمية (المدارس والجامعات). لا يجوز أن يقتصر دور المؤسسات التربوية على التأهيل العلمي والمعرفي فقط، بل يجب أن يتعداه إلى بناء التوازن الفكري والاعتدال السلوكي، ومنهجية التفكير، ونشر ثقافة الوسطية، والقيام بالتطبيقات المناسبة لكل ذلك، حتى يتسنّى إعداد أجيال مؤمنة بثقافة السلام، وتكون قادرة على مجابهة الأفكار المتطرفة.
إن نجاح المؤسسات التربوية يجب أن يهدف أيضاً على بناء الشخصية المؤهلة علمياً، والمؤمنة بربها، والملتزمة بدينها، والمخلصة لوطنها والناشطة في مجتمعها، والمنفتحة على الآخر، والقادرة على نقد الفكر المتطرف والمتعصب، والرافضة للإنغلاق والتقليد الأعمى، والملتزمة بأدب النقد والاختلاف وأهمية الحوار بالحسنى. وليتحقق ذلك لا بد من إشراك جميع مكونات العملية التربوية في هذه الأهداف. وهذه المكونات هي العقيدة والقيم، والمعلم، والبرامج والمناهج التعليمية، والإدارة التربوية، والطالب الذي يشكل محور العملية التربوية.
إن دراسة هذه العوامل المؤثرة في بناء شخصية الإنسان، والتركيز على هذين العاملين الأساسيين (اللذين هما الأسرة والمؤسسات التربوية) ووضع البرامج المناسبة لهما، وإقامة دورات التأهيل للقيمين عليها، تساعد في مواجهة سلبيات العوامل الأخرى التي ذكرناها، وبالتالي تساعد في التصدي، ومحاربة الغلو والإرهاب والحدّ من انتشار الفكر المتطرف، ونشر ثقافة السلام، وخصوصاً بين صفوف الشباب الذين هم أمل المستقبل وبناته.
______________________________
*نشرت في مجلة مكارم الأخلاق الإسلامية عدد حزيران 2015