حاضر الرئيس نجيب ميقاتي في كلية الحقوق بجامعة هارفرد الأميركية في بوسطن عن “الوسطية في سياسات الشرق الأوسط: نهج أم وهم”، في حضور مسؤولي الجامعة وطلاب كليتي الحقوق والدراسات الشرق أوسطية والمسؤول عن برنامج التفاوض والحوار في جامعة هارفرد الدكتور دنيال شابيرو ورئيس الاكوادور السابق من أصل لبناني جميل معوض، بالاضافة الى مجموعة من الطلاب اللبنانيين الذين يتابعون دراستهم في جامعات بوسطن.
بداية، شكر الرئيس ميقاتي الجامعة على دعوته وهنأها على الجهود التي تبذل من اجل تحقيق التفوق في برنامج التفاوض الدولي. وقال: “يسعدني أن أكون هنا اليوم، لأتحدث إليكم عن ثقافة الوسطية، التي قد تكون مألوفة لديكم، لكنها تحتاج الى التعميم في المنطقة التي أنتمي اليها لأنها النهج الوحيد لجذب الناس الى أرضية مشتركة، فالنقاش في منطقتنا ليس بين نهج يميني ويساري أو بين ليبرالي ومحافظ، بل اتخذ للاسف شكل الانتماءات الدينية. وأعتقد أن سياسات التسامح والاعتدال من خلال حكومة قوية جامعة تكون هي السبيل لتوحيد كل الاتجاهات حول دولة واحدة”.
وقال: “الوسطية هي التموضع السياسي المتوازن، المرتكز على ممارسة وتعزيز السياسات المعتدلة، بعيدا عن مختلف السياسات المتطرفة، وبكلمة اخرى، هي ليست نهج اليسار أو اليمين بل خط ثالث يوفر فرصة تجاوز الصدام القديم بين اليسار واليمين، لارساء فلسفة سياسية جديدة. إن احد الأسباب الرئيسية لفشل الأحزاب الكبرى في تبني أيديولوجية متنوعة واسعة، هو بسبب عدم قدرتها على الدمج بين المبادئ الليبرالية والمحافظة، أو اتخاذ انماط من التفكير اكثر تطورا”.
وتابع: “إن الوسطية بالنسبة لي لا تتبع انماطا جامدة، والوسطي هو الشخص الذي يؤمن حلولا عملية فائدتها اكثر من الانتصارات المعنوية، وهو في الغالب حر التفكير ويرفض ان يكون سلبيا ازاء الآراء الجامدة . كما ان الوسطي يعبر في الغالب عن رأي الاغلبية الصامتة الممثلة تمثيلا ناقصا، من خلال حس القيادة وليس القناعات الشائعة. الوسطي هو الشخص الذي لا يقول لا لليسار او اليمين، بل يقول نعم للأفكار التي من شأنها تحسين التقارب بين مختلف التيارات الاجتماعية والدينية والسياسية، مع مراعاة المصلحة الوطنية الأوسع نطاقا وليس التركيز على وجهة نظر منحازة”.
وأضاف:”ان الركائز الرئيسية الثلاث للوسطية هي الشمولية او الاحتوائية في سبيل توحيد أكبر عدد من الناس، بغض النظر عن انتماءاتهم وخلفياتهم والقبول او الاعتراف بخصوصيات الآخر، بالاضافة الى الواقعية والعملانية عبر استنباط حلول لا تخضع للمصالح الخاصة، أو المواقف المتطرفة والروئ الضيقة، بل تقدم إجابات واقعية وقابلة للتحقيق لمختلف المشاكل التي تواجه مجتمعاتنا”.
ثم تناول الاهمية التاريخية للوسطية في لبنان ، بدءا بتجربة الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح في مرحلة الاستقلال، ثم حقبة الرئيس فؤاد شهاب، وحكومة الرئيس سليم الحص الأولى وصولا الى حكومة الرئيس رفيق الحريري الأولى عام 1992.
وعرض لدور الحكومة الأولى التي ترأسها عام 2005، وقال: “لقد تمت تسميتي من النواب لترؤس الحكومة التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لقد كانت مرحلة عصيبة من تاريخ وطننا وكنا على مفترق طرق بين تأمين الاستقرار النسبي او الانزلاق المؤكد نحو الهاوية. شكلت حكومة من التكنوقراطيين الذين يمثلون مختلف الفئات لتجنب وقوع مشاحنات سياسية في مجلس الوزراء، وللتركيز على الادارة العملانية للشؤون الحكومية. كما امتنعت عن الترشح للانتخابات النيابية في سابقة كانت الأولى في تاريخ رؤساء الحكومات في لبنان، ونظمنا الانتخابات النيابية على اكمل وجه”.
ثم شرح مراحل تكليفه برئاسة الحكومة للمرة الثانية عام 2011، وقال: “كان لبنان في تلك الحقبة يشهد صراعا إقليميا نتج عنه انقسام حاد رأى فيه البعض فرصة لتعزيز مواقعه واهدافه المحلية. لهذا أخذت المهمة الصعبة لتجنيب لبنان مزيدا من التجاذبات وفي ما بعد، خلال ممارسة المسؤولية، انتهجت سياسة النأي بالنفس عن النزاع في سوريا في عز ما سمي “الربيع العربي”، وهذه السياسة التي كانت موضع انتقاد الكثيرين باتت، في ما بعد وحتى هذا اليوم، السياسة الوطنية المتبعة من قبل جميع الأطراف السياسية، وما زالت السياسة الرسمية للحكومة اللبنانية. وهذا النهج الوسطي الذي اعتمدناه عبر سياسة النأي بالنفس جنب لبنان حربا أهلية جديدة. كانت تلك الفترة من اصعب الفترات، وقوبلت بالكثير من حملات التجني والرفض، والعنوان الذي يعبر عن تلك المرحلة ويصلح ليكون اسما لعمل مسرحي هو “كيف تجرؤ أن تكون وسطيا في الشرق الأوسط؟”. إنني اترك للجمهور الواسع محليا و دوليا تقييم تلك المرحلة التي استخلصت منها خمس نصائح اقدمها للوسطيين: لا تأخذ برأي واحد، بل خذ برأيين او اكثر وكوّن قناعتك الذاتية وجاهر بها بوضوح. ابحث عن أناس يتمتعون بفكر منفتح في كلا الطرفين ، ستجدهم حتما، فحاول التواصل معهم. شجع على الحوار بين ألد الخصوم ولو بشكل غير مباشر، لأن الجميع يريد أن يسمع صوته. واظب على تحقيق التواصل، ولو بح صوتك. لا تتنازل عن مبادئك حتى لو بقيت وحدك او شكلت اغلبية صوت واحد”.
وأضاف: “بالعودة الى عنوان مناقشتنا حول ما إذا كانت الوسطية سياسات الشرق الأوسط نهجا أم وهما، أقول إن الوسطية هي وهم برأي اولئك الذين يتمسكون بوجهة نظر متطرفة وجامدة ،لكن الوسطية هي بالتأكيد نهج من يريدون الوصول الى حلول تأخذ في الاعتبار السلم الأهلي والاستقرار والازدهار. ولذلك فإنني سوف أعيد صياغة عنوان اللقاء ليصبح على النحو الآتي: “الوسطية في الشرق الأوسط ليست وهما بل ضرورة”.
وختم بالقول: “أنهي بكلام لأحد منتهجي الوسطية يقول احيانا نذهب يمينا او يسارا، لكن في النهاية فان افضل السياسيات يكمن في الوسط”.
وعقب اللقاء حوار مستفيض عن الواقع الحالي في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط، حيث اكد الرئيس ميقاتي ” ان الاولوية يجب ان تكون لحل عادل للقضية الفلسطينية مبنية على مبادرة الملك عبدالله للسلام التي أطلقها من بيروت عام2002.”