عقب انتهاء ولايته في رئاسة الوزراء اتجه الرئيس نجيب ميقاتي الى دائرة الصمت المغلقة معلنا بداية فترة استراحة المحارب بعد المسؤولية الجسيمة التي ألقيت على عاتقه كرئيس لحكومة انتقالية محايدة اشرفت على اجراء الانتخابات النيابية الاخيرة واستحقاقات وطنية أخرى بنجاح لاقت التقدير والاكبار من مختلف الاوساط والهيئات المحلية والعربية والدولية.
ويبدو أن الرئيس ميقاتي آثر الابتعاد عن دائرة الضوء بعد ذلك متفرغا لأعمال ونشاطاته الخاصة ، فتجنب اتخاذ المواقف والتصريحات الاعلامية إلا ما ندر في وقت ازدادت السجالات وتصاعدت وتيرتها وسخونتها بين القوى السياسية على الساحة الوطنية وامتداداتها الاقليمية والدولية.
ثم لاحت بشائر عودته وحضوره الفاعل على كافة الصعد حين أشاعت أجواء مصادره عن اعادة تنظيم صفوفه وتحديث هيكلية جهازه الاستشاري والتنفيذي رافقه تكثيف في التحركات والاتصالات وازياد ملحوظ في التقديمات الاجتماعية والمساهمات الفاعلة في النشاطات البيئية والبلدية والخدماتية حتى أنه لم يفت أسبوع على المدينة حتى تشهد احتفالات في هذه المجالات عبر جمعية العزم والسعادة برعايته الشخصية أو من يمثله.
في الجانب الاعلامي لفت نظر المراقبين تصريحات الرئيس ميقاتي الاعلامية التي صارت تصدر عنه شبه يومية تقريبا ابداءً لرأي أو اتخاذ لموقف في حدث ما على الساحة اللبنانية.
وما أثار انتباه المراقبين المبدأ الذي اعتمده الرئيس ميقاتي وهو الوسطية، حيث لم يخل تصريح أو حدث أو لقاء إعلامي من التأكيد على هذا المبدأ في مواقفه ودعواته، فدعا الى الحوار ضمن قاعدة “تواضع الموالاة ومرونة المعارضة” والتجاوب مع المساعي والمبادرات العربية والالتزام بالقرارات الدولية.
هذه التغييرات التي أحدثها الرئيس ميقاتي في المنهجية السياسية والاسلوب المتجدد في المجالين الخدماتي والاجتماعي، وأن نفى عنها الصفة التغييرية باعتبارها استئناف أو استمرار للتساؤل عن الخلفيات والدوافع ومدى ارتباطها بالاستحقاقات المقبلة التي من جهته ينفي ربطها بذلك ويعتبر تلك التساؤلات افتراضية لكون مثل هذه الامور مرهونة بظروفها وأوقاتها، مع التأكيد على أن مواقفه وآراءه نابعة من قناعاته السياسية الشخصية والوطنية ، كما أن نشاطه الاجتماعي والخدماتي ينطلق من التزامه بواجباته اتجاه اهله وأبناء مدينته، ويضع حالة التنافس بين قياداتها في المواقف والاداء في خانة التعددية مع الامل بتوحيد الكلمة وتنسيق المواقف.
و”البرهان”، بدافع مهني موضوعي حملت بعض تلك التساؤلات لتطرحها على الرئيس نجيب ميقاتي. وعلى مبدأ “خير الكلام ما قلّ ودل ” جاءت إجابات الرئيس ميقاتي بالمختصر المفيد. وفيما يلي نص الاسئلة والإجابات.
1- لقد اعتمدتم في اتخاذ مواقفكم وحركتكم السياسية مبدأ الوسطية ، فهل ترون سبيلا الى نجاح هذا المبدأ في معالجة الازمة اللبنانية القائمة في ظل التشنج والاحتقان السائد في الساحة الوطنية ؟
– لقد قام لبنان دوما على مبدأ الوسطية والديموقراطية التوافقية في كل شيء ، بحيث افرز ظاهرة فريدة من نوعها في العالم ، نظرا لتركيبته الطائفية والمذهبية والاجتماعية التي تتطلب مقاربة مختلفة عما يحصل في العالم . ومن الملاحظ انه كلما ابتعدنا عن هذا المفهوم يتعرض وطننا لازمات سياسية خطيرة تهدد كيانه . والازمة الحالية لتي نعيشها اليوم هي انعكاس لهذا الاختلال في التوافق والتوازن ، والتشبث بالرأي بعيدا عن روح الوفاق والتوافق ، ولن تجد هذه الازمة حلا لها سوى بالعودة الى المبدأ الذي درج عليه اسلافنا من السياسيين الحكماء .
2- مع ارتباط قوى الصراع المحلي المختلفة بالمحاور الاقليمية والدولية ، كما يتهم كل طرف الطرف الآخر ، وفق مخططات مرسومة واهداف محددة تتجاوز حدود الساحة الوطنية ، كيف يمكن بنظركم ايجاد الحلول القادرة على تحصين الوحدة الوطنية والحد من التفجيرات السياسية والامنية ؟
– ان جانبا اساسيا من الازمة اللبنانية الراهنة ، كسائر الازمات التي مر بها ، هو انعكاس للصراع الاقليمي والدولي بالنظر الى الواقع الجيوسياسي للبنان . وهذا الواقع يقتضي حصول تقارب اقليمي ودولي يفضي الى بلورة تسويات معينة تكون لها ارتداداتها الايجابية على الواقع اللبناني. وفي المقابل مطلوب من اللبنانيين التوافق على الحد الادنى من السبل الكفيلة بادراة الازمة الى حين اتضاح صورة الوضع في المنطقة ومنع تفاقم الاوضاع الى درجة اللاعودة .
3- جميع الاطراف المتناحرة تدعي دستورية مواقفها في الوقت الذي يعطلون المؤسسات الدستورية ويرفضون الاحتكام اليها تاركين لحركة الشارع ان تحدد مسار الازمة رغم مساوئ عواقبها . كيف تقرأون الازمة اللبنانية وفق هذه المعادلة؟
– منذ اندلاع الازمة دعوت الجميع الى الاحتكام الى لغة العقل بدلا من التجييش المذهبي والاحتكام الى الشارع ، وعبرت عن رؤيتي للحل بالقول ان على الاكثرية ان تكون اكثر تواضعا وعلى الاقلية ان تكون اكثر ديموقراطية ، واعتبرت ان العناد والمكابرة في المواقف سيوصلا الاوضاع الى حائط مسدود لا تعود تنفع معه الاجتهادات الدستورية . وانني على قناعة انه ، بقدر ما ينبغي ان نحترم الدستور ونحتكم اليه ، بقدر ما يجب ان نحافظ على اللحمة بين اللبنانيين ومصير وطننا. ولا سبيل للخروج من الازمة الراهنة الا بعودة الجميع الى الحوار من دون شروط مسبقة والاقتناع بان الحل يتطلب تنازلات متبادلة من الجانبين للوصول الى تفاهم معين على كل الامور الخلافية والحلول المطلوبة لها والانتقال الى معالجة الملف الاقتصادي والاجتماعي الذي طال اهماله وبات يشكل الخطر الحقيقي على مستقبل لبنان لا سيما مع وجود موجة هجرة كثيفة للشباب والطاقات اللبنانية لم يعرف لبنان مثيلا لها من قبل ، وهذا الواقع ان دل على شيء فهو مؤشر خطير على انعدام الثقة بمستقبل البلد.
4- كل المراقبين يجمعون على ان المحكمة الدولية هي محور الازمة ، فالقول بقبول الجميع مبدأ قيام المحكمة يقابله القول بان الشيطان يكمن في التفاصيل وهو ما يعتبره آخرون انه مبرر لتعطيلها . ما هي الحقيقة بنظركم ؟
– لا شك ان موضوع المحكمة الدولية هو عنصر اساسي في الصراع الدائر حاليا بالنظر الى الجريمة الخطيرة التي استهدفت الرئيس الشهيد رفيق الحريري والجرائم التي وقعت بعدها . ولكن هذا الملف جرت مقاربته بشكل خاطئ منذ البداية من قبل جميع الاطراف مما اظهر الى العلن وكأن هناك خلافا حول مبدأ المحكمة ذات الطابع الدولي بينما الواقع يشير الى ان كافة اللبنانيين مجمعون على ضرورة قيام هذه المحكمة. واذا كانت تساور البعض شكوك حول بعض التفصيلات فمن الضروري مناقشتها لضمان ان تكون المحكمة عادلة وتقوم بالمهام المطلوبة منها بعيدا عن التسييس الذي يسيء الى الحقيقة التي نريد جميعا معرفتها .
5- الجراة في اعلان لاهداف الحقيقية للازمة اللبنانية مفقودة في طروحات القوى السياسية المختلفة والاستعانة عنها بتدني الخطاب السياسي مما يزيد الاجواء التحريضية ويعمق الشرخ في المجتمع اللبناني . برأيكم ما هي الخطوات الجريئة التي يمكن اعتمادها لمواجهة هذا النزف في الجسد اللبناني والحد من الاصطفاف العاطفي والمذهبي وترجمتها عل ارض الواقع بعيدا عن الدعوات النظرية ؟
– الخطوة الاولى المطلوبة برأيي هي الشجاعة في الاقدام على وقف التصعيد الكلامي والخروج من الشارع والعودة الى المؤسسات الدستورية وقيام حوار هادئ وبنـّاء بعيدا عن التجييش الغرائزي والاحتكام الى الشارع والتلطي خلف المواقف المذهبية والطائفية والمناطقية التي كادت في الاشهر القليلة الماضية أن تؤدي بالبلد الى المجهول .
6- بين نشاطكم الاجتماعي والانساني والخيري المميز ومواقفكم السياسية الوسطية ، اين ترى تجاوب المواطن اللبناني عامة والطرابلسي خاصة ؟ وكيف يمكن ان يتحول المستفيد من تقديماتكم الى ملتزم بمواقفكم السياسية ؟
– منذ قررنا الوقوف الى جانب اهلنا في طرابلس وكل لبنان حتى قبل تأسيس جمعية العزم والسعادة الاحتماعية في العام 1988 لم نهدف اطلاقا الى استثمار العمل الاجتماعي والانساني بشكل سياسي ، لاننا نعطي مما اعطانا الله ولا منـّة في ذلك ولا غاية مستترة وراء ذلك . وقد ثبت للجميع اننا نطور عملنا الاجتماعي بشكل مؤسساتي لضمان استمراريته وتفاعله في المجتمع . وان التقديمات التي تمنحها مؤسساتنا غير مشروطة وغير فئوية ولا نبغى منها سوى احتساب وجه الله .
7- هل تعتقدون ان مبدأ الوسطية يتقارب مع موقف من يطلق عليهم لقب الاكثرية الصامتة ؟ وهل يمكن ان يبادر هؤلاء الى اعتناقه كخط سياسي تفعّل حركته في المرحلة المقبلة ؟ وكيف؟
– خلال الفترة الماضية لاحظنا ان كلا طرفي الصراع ، اي الموالاة والمعارضة ، كانا يتغنيان بحجم التاييد الشعبي الذي يتمتعان به ، ولكن كلا الطرفين سها عن باله ان هناك اكثرية لبنانية حقيقية غير راضية عن اداء الطرفين وتعبر عن قرفها بالاستنكاف عن المشاركة والتجاوب مع كلا الطرفين. وهذه الاكثرية هي المعّول عليها في التحرك باتجاه دفع الامور الى منحى ايجابي معتدل ينقذ البلد بعدما استنزف طرفا الصراع سمعة البلد واقتصاده واستقراره.
8- العمل السياسي في طرابلس تحكمه الحالة الفردية بين قياداتها المختلفة يتميز احداها عن الاخرى بتقديماته المتفاوتة ، وقد يكون المواطن المستفيد الاول من ذلك . لكن الا تعتقدون ان الخاسر الاوحد هي الحالة السياسية التي تفتقد الالتزام بعيدا عن المصالح ؟ وكيف يمكن معالجة سلبياتها وتحقيق التلازم بينها ؟
– مع احترامنا المطلق لحق تعددية الآراء السياسية لكننا لن نيأس من دعوة جميع الذين يتعاطون الشأن العام الى توحيد الجهود والكلمة في ما يخص تنمية طرابلس وابعادها عن جو الحرمان الذي تعانيه منذ سنين طويلة .
9- فيما لو خيرتم بين رئاسة حكومة انتقالية وخوض انتخابات نيابية مقبلة ، ماذا تختارون ؟ وهل تكررون تجربتكم السابقة ؟ وفي كلا الحالتين ما هي مبرراتكم ومعطياتكم ؟
– انني اعتز بالتجربة السابقة حيث وفت الحكومة التي ترأستها بكافة الوعود والتعهدات ونفذت كامل بنود بيانها الوزاري ونقلت البلد من ضفة التشرذم الى ضفة الاستقرار . اما بشأن ما تفضلت بطرحه فهو سؤال افتراضي سابق لاوانه ، ولكل ظرف الموقف المناسب له .